إنّ كلمات المسيح تبحث عن جمالٍ، قد يكون مختبئًا عن أعين البعض ..
كلماته روح وحياة .. دفقات من الدماء في عروق الإنسان الجديد .. ودفقات من النور في ضمائر ونفوس وأرواح مَنْ تركوا العتيق البالي بحثــًا عن التجدُّد في المعرفة والخبرة الروحيّة، كلّ يومٍ، على صورة الله الظاهر في الجسد؛ الربّ يسوع.
كلماتٌ تُشكِّل مقياس الحياة الجديدة وتُعيد بعث ذكرَى البراءة الأولى لإنسان ما قبل السقوط.
كلماتٌ تميت وتحيي .. تجرح وتعصب .. تُقيِّد لتُحرِّر .. كلماته نيران تشتعل في القلوب لتدفعهم للسير وإن كانت المسيرة على جمر نار الاضطهاد والضيقة.
إنّ الكلمات هي نطق الحياة؛ فكلمات المخلِّص هي منطوق حياته التي لم تقترب منها شهوة ولا خطيئة ولم تعبث بها غرائز الإنسان العتيق. إلى تلك الحالة كانت دعوة الربّ.
لم يُلْقِها عبثــًا على أُناسٍ يحيون في العالم، والعالم شبكة عنكبوتيّة كبيرة متداخلة .. متاهة من الطرق المتشابكة، لا نهاية لها.
كلماته تحمل من الأسرار الكثير والكثير .. حجابٌ يرق أو يتكثــّف بحسب العلاقة معه .. يرق حجاب الأسرار فيظهر الله للبصيرة في فيض نور الحضرة الإلهيّة .. نورٌ؛ نغماته فرح وسلام في الروح .. وحينما يُستعْلَن الله تتحوَّل مبهمات الكلمات إلى حقائق أبديّة مُحقَّقة لا يلمسها إلاّ الإنسان الجديد القائم في المسيح، من موت الخطيئة.
كلماتٌ كان يلقيها على جموعٍ على مختلف مشاربهم؛ مختلفو الأعمار والمدارك، ولكن كلمات الربّ أشبه بقطعة من الصلصال يُشكِّلها الروح لتناسب الأذهان على مختلف قدراتها .. كلماته كانت قوى الحريّة الجديدة لمن تكبّلت أذهانهم بقناعات حجريّة مغلولة في أصفادٍ حديديّة صدئة هي منطق العالم والحواس والحَرف ..
كلمات الربّ يسوع تنزع النقاب عن وجوهنا المُلثــّمة لنرى الحقيقة، نرى ما يختبئ خلفه من ملامح إنساننا الداخلي. إنها افتضاح رقيق لزيفنا وازدواجيّتنا حتّى نبدأ في إماتة إنساننا العتيق بنصل الكلمة نفسها. لا تفتضحنا كلماته أمام الجموع ولكن فقط أمام نفوسنا ..
كلماته تعيدنا إلى براءة الطفولة الممتزجة بحكمة الروح، تُجدِّد فينا تلك المسحة البريئة من الطُهر والتي يتلفها العالم كلّ يوم بخبرات الجموح التي يلقيها أمام ناظرينا لتجرح براءتنا. وبراءتنا شهيدة بأيدي العالم الذي يضيف إلى جراحها جراحًا، وعلينا أن نذهب لطبيب الحياة ليداوي جراح البراءة المفقودة بكلمات الطُهر والنقاوة.
كلمات المُخلِّص أشبه بلقطات تصويريّة نقف أمامها في انبهارٍ وقد تردّت فنون كلماتنا في عصرنا الحاضر .. ما بين كلماته وكلماتنا هوّة كما بين الأبديّة والهاوية .. هوّة لا تُعبَر .. كلماته إعلانٌ عمّا يراه كإله كائنٍ في حضن الآب، وكلماتنا خواطر لمّا نستشفّه من حضور الله في واقعنا وزماننا .. كلماته توصيف لأفعاله وكينونته الإلهيّة، وكلماتنا توصيف لحيرتنا وتخبُّطنا الإنساني .. أمام كلماته سنخلع نِعال العالم المادّي ونقترب من لهب الحضور المُشتعل في عليقة الزمان، لنركع ونتعبَّد ونقبل حقائق الدهر الآتي.
في كلماته، يرتسم العالم كطفلٍ يتيم منبوذ محروم جائع وتائه، لباسه مأخوذ من حمأة الفقر والفاقة، ولكنه يقف أمام ضياء وهّاج يحمل له ثوبًا مغزولاً بخيوط النور ويشير عليه بمياه بلّوريّة، مَنْ يغتسل فيها يتجدَّد من صبغة التراب المُلتصقة به وكأنــّها جزءٌ منه. الطفل هو العالم الذي ينظر للحياة نظرة قلقة ساجية مضطربة، ولكنّه على موعد مع هبة الحياة؛ تجسُّد وفداء وخلاص الله، الذي ينتشل البشريّة من أوحال الظلمة إلى سُّحُب النور الأبدي؛ إنْ قبلت واغتسلت وعاشت بمقتضَى البنوّة الموهوبة لمَنْ يرتدي ثوب المعموديّة الجديد الناصع، الذي هو ثوب الإنسان الجديد بل والمتجدِّد يومًا بعد يومٍ إلى صورة خالقه.
كلمات عهدنا الجديد مع الله مكانها القلب، يسترجعها لنا الروح ويلقي بها أمام الإرادة لتدخل معمل الصراع وتُنْتِج سلوكًا يشهد للحمل المذبوح والقائم.
لم تَعُدْ هناك منحوتات حجريّة بأيدي بشرٍ، يكتب الله عليها كلمات جديدة، بل منحوتات قلبيّة يُهذّبها الروح لاستقبال كلمة الله، هناك تابوت العهد الجديد، حيث الكلمة ساكنًا يقيم عشاءه الأبدي ..
عن كتاب “قراءة في حياة الرب يسوع ج1″