هكذا النفوسُ التي اختبرت المُخلِّص لا تطيق صبرًا أنْ تفترق عنه ولو للحظة.
من ذاق حلاوة المسيح، يُرغّب نفسه في الاستئناس بالصلاة
يوحنّا الدلياتي (الشيخ الروحاني)
فهي تلتمس بعناد وانكسار الصلاة أنْ تنطبع صورته في القلبِ والحياةِ معًا، تريد أنْ تصير نوره المُتدفِّق من قلبه المُحبّ إلى كلّ إنسانٍ. تريد النفس أنْ تصير مِلحه الذي يذوب في وسط العالم والخليقة ليُعيد إلى العالم نكهة الحياة بالروح، ولذّة العَلاقة مع الله، إلاّ إنّ حضنه الدافِئ الذي اتّكأَتْ عليه في صلاتها يكون دائمًا حنينها الذي يجتذبها من وسط العالم إلى مخدع الصلاة، فهي تريد أنْ تُرْسَل ولكنّها لا تريد أنْ تفترق!!
اذهبوا إلى العالم أجمع
(مر 16: 15)
إلاّ إنّ الروح تكون مدفوعة بقوّة أخرَى، فلقد اختبرت وتذوَّقت معيّة المُخلِّص، فهي لا تستطيع أنْ تنعم وحدها بمجدِ الحياةِ مع الربِّ وسط عالمٍ يحتضر. لا تطيق إلاّ أنْ تنطق بما رأت وعاينت. يصبح الربُّ المُتجلِّي على جبل طابور هو موضوع كرازتها وصرختها إلى العالم، فهو الخبرة المُنطبعة في ذهنها دائمًا، وهي تختبره كلّ حينٍ يُجدِّد، ويُميت العتيق ويُلبـِس الجديد؛ هذا الجديد المولود في غِلالة النور هو ما يصلُح لأبديّة النور وبنوّة النور!!
آمنوا بالنورِ، لتصيروا أبناءَ النورِ
(يو 12 : 36)
حينها تتجرَّد الصلاة من كونها تصوُّف لتُصبح مزيجًا من الاحتياج العميق والشوق، تتأرجح بينهما النفس، فتميل إلى صراخ الاحتياج حينما تُدْرِك النفس قصورها وزيفها، تُطْلِق صلاتها وإذ بها تصير صراخ استغاثة من طغيان الجسد وقسوة العالم وشكاية الشيطان ..
.. صلاتك لن تكون ـ أحيانًا ـ سوى صرخة عميقة
وبمثابة انتظار متواضع وصامت
غير إنّه انتظار مليء بالشوق
رينيه فوايوم
أين كُنتَ يا ربُّ، حين كُنتُ أصرخُ إليكَ؟
في قلبكِ ـ أجاب الربُّ ـ وإلاّ لمَا استطعتِ أنْ تصرخي إليَّ
كاترينا السينائيّة
بينما تتحوَّل الصلاة إلى شوقٍ في لحظات الانسلاخ من الذّات لتذوب في اتّساع الألوهة؛ تذوب كما لو كانت روحًا سابحةً بلا جسد ولا احتياجات ولا شهوات، تتذوَّق بعضًا من مجدٍ مُستتر مُعَدّ لمن يتسلَّقون مرتفعات الحياة مع الربِّ، ليطأوا جبل العالم في انتظار مركبة النّار التي تأخذهم إلى الأبديّة بيتُ البشريّة الأصلي.
أفـي الجسد أم خارج الجسد، لست أعلم!!
(2كو 12 : 3)
تَسْبحُ النفسَ في لُجج النور، محمولةً على أجنحة الروح القدس، فتُعاين موطن النور، تلمسه وكأنـّها تريد أنْ تعود به للعالم، لتشهد به عن حقٍ صارَ نسيًا منسيًّا. تريد أن تقتطفه لتضَعُه في مِحرابِ عبادتها حتّى لا يتحوَّل إلى ذكرَى وسط طوفانِ ذكرياتٍ تتلاطم في عقلها الترابي.
تستفيق النفسُ من سُبات أبديّتها، لتجد ثوبًا حريريًّا بهيًّا يُظلِّلها؛ ثوبٌ أشبه بثيابِ عُرسٍ. إذ ذاك، تُدْرِكُ أنْ حلمَها ما هو إلاّ يقظة، ويقظتها الأرضيّة هي غيبٌ عن وعي الوجودِ، ووعي الحياةِ.
إنّ الصلاةَ ليست حركةً مكانيّةً للتقرُّب من الله في مواضع الذكرَى الخلاصيّة. فهي لا تتطلَّب ارتحالاً وحجًّا لأراضٍ مُقدَّسة تُظلِّلها البركةَ دون سواها. فأورشليم هي قلبُ مَنْ تطلَّع في لحظاتِ الشوقِ إلى العلاء. هناك يرقد النجم الإلهي مُعلنًا عن بيتِ لحمٍ جديدةٍ، تُولَد فيها عَلاقة حيّة مُقمَّطة بقماط البراءة التي تستقطب روح الطُهر الإلهي.
إنّ بيتَ لحمِ والجلجثة وجبل الزيتون والقيامة
هي في قلب مَنْ يملكون الله
القديس غريغوريوس اللاّهوتي
كتاب نحو الصلاة
أبونا / سارافيم البرموسي