كانا شابان صغيرا السن أدركا غنى الملكوت وعشقا شخص السيد المسيح ، فتركا عظمة المُلك والجاه ووفرة الغنى والكرامة وعمدا إلى سكنى البراري والقفار. انفتح قلبيهما على السماء حوَّل القفر إلى فردوس، وسلكا بسيرة ملائكية أدهشت القديس مقاريوس الذي كان يستصحب بعض زائريه إلى مغارتهما ، ويقول لهم: “هلموا نعاين مكان شهادة الغرباء الصغار” . كان يحسبهما شهيدين بدون سفك دم.
كان هذان القديسان أخوين، وكان أبوهما فالنتيانوس القيصر الروماني (364-375) رجلاً خائف الرب وناصرًا للمسيحية ، ربَّى ولديه وأختهما الصغيرة في مخافة الرب. فلما كبر مكسيموس ودوماديوس اشتاقا إلى حياة الرهبنة. فطلبا من أبيهما ان يسمح لهما بالذهاب إلى مدينة نيقية ليُصليا في مكان اجتماع المجمع المقدس المسكوني الأول الذي انعقد سنة 325م. فرح أبوهما وأرسل معهما حاشية من الجند والخدم كعادة أولاد الملوك. ولما وصلا أمرا الجند ان يرجعوا إلى أبيهما ويقولوا له أنهما يريدان ان يمكثا هناك أيامًا. ثم كشفا أفكارهما لأحد الرهبان القديسين يُدعى حنا فشجعهما، ولما طلبا ان يبقيا معه اعتذر خوفًا من أبيهما وأوصاهما بالسفر إلى سوريا ليتتلمذا على يديّ القديس المتوحد الأنبا أغابيوس وهو طرسوسي من كيليكية، وكان ذا شهرة كبيرة.
توجها إلى الأنبا أغابيوس فقبلهما وألبسهما إسكيم الرهبنة. ولما قرب زمان نياحته سألاه ماذا يفعلان بعده. أما هو فقال لهما: “رأيت نفسي في هذه الليلة واقفًا علي صخرة جنوب مسكننا، ورأيت راهبًا واقفًا أمامي وعلي رأسه غطاء عليه صلبان. وكان في يده عصا من جريد وصليب . لما رأيته خفت، ولكنه اقترب مني وسلّم عليّ، وقال لي: “هل تعرفني؟” قفلت له: “لا يا أبي القديس”. قال لي: “أنا مقاريوس المصري أتيت لأدعو أولادك للأخذهم إلى مصر”. فقلت له: “ألا تأخذني معهم أيضًا يا أبي؟” فقال لي: “لا، ولكني أعلمك أنك بعد ثلاثة أيام ستتنيح وتذهب إلى السيد. وسيرسل الملك رُسلا وراء ولديه ليأخذهما إلى القسطنطينية، فإعرف ذلك ومُرهما ان ينزلا إلى مصر ليسكنا بالقرب مني. لأن السيد قد عينهما لي أولادًا، وها أنا قلت لك”. ولما قال ذلك اختفي عنيِ”. ثم قال لهما: “إنني كنت اشتهي ان أنظر هذا القديس بالجسد ولكنني قد رأيته بالروح، فبعد نياحتي امضيا إليه بسلام”.
أنعم الله عليهما بنعمة شفاء المرضى، وشاع ذكرهما في تلك البلاد خصوصًا بين التجار والمسافرين، وتعلّما صناعة قلوع المراكب فكانا يقتاتان بثمن ما يبيعانه ويتصدقان على الفقراء والمساكين بما يفضل عنهما.
في إحدى المرات كان نائب الملك في الميناء مع الجند يفتش السفن الداخلة، فلاحظ اسميّ القدّيسين على إحدى السفن. استفسر من صاحب المركب عن سبب ذلك. فقال له: “هذان اسمان لأخوين راهبين كتبتُهما على قلع مركبي تبَرُّكا لكي يُنجّي الله تجارتي”. ثم بيّن له أوصافهما بقوله ان أحدهما قد تكاملت لحيته والآخر لم يلتحِ بعد، فعرفهما، وأخذ الرجل وأحضره أمام الملك ثيؤدوسيوس الذي كان رئيسا لجنود الملك فالنتينوس، وتعين ملكًا بعد وفاته. قدم الملك ثلاث قطع ذهبية لكل بحار. وصرفهم بسلام. ثم أرسل مندوبًا من قبله اسمه ماركيلوس إلى سوريا ليتأكد من الخبر قبل إذاعته في القصر. وبعد بضعة أيام عاد المندوب مؤكدًا الخبر، وكان فرح عظيم في القصر. ذهبت إليهما والدتهما والأميرة أختهما، فلما تقابلتا بالقديسين وتعرفت عليهما بكتا كثيرًا جدًا، ورغبت أمهما ان يعودا معها فلم يقبلا، وطيّبا قلب والدتهما وأختهما.
بعد ذلك بقليل تنيّح بطريرك القسطنطينية فإتجهت الأنظار إلى القديس مكسيموس ليخلفه ورحّب الملك ثيؤدوسيوس بذلك، وأرسل نائبه ومعه بعض الجنود لاستدعائه، كما كتب إلى والي سوريا بذلك. تسرّب الخبر إلى الأخوين عن طريق زوجة الوالي التي كانت تحبهما كقديسين. ولما علما بذلك هربا واختفيا عند راعي غنم أيامًا كثيرة، ثم غيّرا ثيابهما ولبسا ثيابًا مدنية وتنكّرا حتى لا ينكشف أمرهما وصلّيا طالبين مشورة الله للوصول للأنبا مقاريوس.
سارا نحو تسعة أيام حتى أعياهما التعب وهما يسيران على شاطئ البحر. افتقدهما الرب برحمته ووجدا نفسيهما في شيهيت حيث القديس مقاريوس وعَرَّفاه أنهما يريدان السُكنى عنده. ولما رآهما من أبناء النعمة ظن أنهما لا يستطيعان الإقامة في البرية لشظف العيشة فيها. فأجاباه قائلين: “إن كنّا لا نقدر يا أبانا فإننا نمضي إلى موضع آخر”. عاونهما في بناء مغارة لهما ثم علَّمهما ضفر الخوص، وعرّفهما بمن يبيع لهما عمل أيديهما ويأتيهما بالخبز. أقاما على هذه الحال ثلاث سنوات لم يجتمعا بأحد سوى أنهما كانا يدخلان الكنيسة لتناول الأسرار الإلهية وهما صامتين. فتعجب القديس مقاريوس لانقطاعهما عنه كل هذه المدة وصلى طالبًا من الله ان يكشف له أمرهما، وجاء إلى مغارتهما حيث بات تلك الليلة. فلما استيقظ في نصف الليل كعادته للصلاة رأى القديسين قائمين يُصليان، وشُعاع من النور صاعدًا من فم القديس مكسيموس إلى السماء، والشياطين حول القديس دوماديوس مثل الذباب، وملاك الرب يطردهم عنه بسيفٍ من نار. فلما كان الغد ألبسهما الإسكيم المقدس وانصرف قائلاً: “صلّيا عني”، فضربا له مطانية وهما صامتين.
روى كاتب السيرة، الراهب بيشوي شماس الكنيسة التي بناها القديس مقاريوس الكبير نفسه، وهي أول كنيسة في الاسقيط:
[حدث مرة حينما كنت معهما ان قلت لهما: لو كنتما في القسطنطينية يا أبوي فبالتأكد كنا نجدكما قد توليتما الملك”. فأدارا وجهيهما وقالا بوداعة: “أين إذن روحك أيها الأخ حتى بدرت منك هذه الكلمة؟ إنها بلا شك في المكان الذي ذكرته. لقد قلنا لك عدة مرات أيها الأخ بيشوي أنك سواء كنت جالسًا معنا أو في مسكنك يجب ان تذكر دائمًا اسم الخلاص الذي لسيدنا يسوع المسيح بلا انقطاع، لأنه بالحقيقة لو كان هذا الاسم القدوس في قلبك لما قلت هذه الكلمة التي تكلمت بها الآن. من الآن فصاعدًا انتبه بالتأكيد إلى نفسك، ولا تهمل الاسم القدوس، اسم سيدنا يسوع المسيح، بل تمسك به بكل قلبك باستمرار حتى في الآلام، لأننا لو أهملناه نموت حتما في خطايانا”.
ومن أقوالهما: “فلنفرغ من الدالة والمزاح والكلمات الباطلة التي تجعل الراهب يخسر كل الثمار حسب الطريقة التي تعلمناها، إذ كنا لا نزال بعد في سوريا حينما كان الناس يحاولون إسعادنا دون ان يتركوننا نفكر في خطايانا. لكن الغربة والسكوت بفهم واحتمال الشدائد هذه هي خصائص الراهب.
فالشدة تولد الصلاة في طهارة، والصلاة تولد مخافة الرب والمحبة، وهذا ما ينمي الإنسان، لأنه لا جاه ولا غنى ولا قوة يتقبلها الله ما لم يكن المسيح يسكن فينا”].
بدأ القديس مكسيموس يمرض بحمى عنيفة، فلما طال عليه المرض طلب إلى أخيه الأصغر ان يذهب إلى القديس مقاريوس يرجوه الحضور. فلما أتى إليه وجده محمومًا فعزاه وطيّب قلبه. يقول كاتب السيرة: [اجتمعنا حول القديس مكسيموس لننظره فسمعناه يقول وقد خُطف عقله: “يا رب أرسل لي نورك ليضئ قدامي في هذا الطريق التي لا أعرفها. يا إلهي وخالقي خلصني من قوات الظلمة المجتمعين في الهواء، وأصلح خطواتي في هذا الطريق لأبلغ إليك باستقامة. وكن لي نعمة وقوة يا إلهي وسيدي، لأنك أنت رب النور ومخلص العالم”. ثم صمت قليلاً، وتطلع القديس مقاريوس وإذا جماعة من الأنبياء والرسل والقديسين و يوحنا المعمدان وقسطنطين الملك جميعهم كانوا قائمين حول القديس إلى ان سلّم روحه الطاهرة بمجدٍ وكرامةٍ. فبكى القديس مقاريوس وقال: “طوباك يا مكسيموس”.
أما القديس دوماديوس فكان يبكي بكاء مرًا، وسأل القديس مقاريوس ان يطلب عنه إلى السيد المسيح لكي يُلحقه بأخيه. وبعد ثلاثة أيام مرض بحمى شديدة هو الآخر وقيل للقديس مقاريوس عن ذلك فذهب إليه لزيارته. وفيما هو في الطريق وقف فترة طويلة ينظر نحو المغارة ثم التفت ناحية المشرق، فظن من معه أنه كان يصلي ولكنه كان يتأمل خورس القديسين الذين كانوا يتقدمون روح القديس دوماديوس. نظر الأب مقاريوس نحو السماء وهو يبكي ويقرع صدره قائلاً: “الويل لي لأني لم أعد راهبًا بالكلية”. ثم قال لهم: “لقد تنيح القديس دوماديوس”. قال الأب مقاريوس ان الطغمات الذين جاءوا ليأخذوا نفس دوماديوس هم الذين جاءوا لأخذ روح أخيه. وبنى القديس مقاريوس كنيسة في موضع سُكناهما وهي أول كنيسة بنيت في البرية.
كانت نياحة القديس مكسيموس يوم 14 طوبة ولحقه أخوه القديس دوماديوس في 17 طوبة. كما كان القديسان مكسيموس ودوماديوس أول من تنيح من الرهبان في الإسقيط، وكانت نياحتهما بعد سنة 380م.
صلاتهم تكون معنا ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين.