هناك من ينظر للماضى و كأنّه قمم من جليد متجمد لم تعبر عليه شمس التجربة الإنسانية .. وكأنه خيوط أسطورية فى رداء التاريخ الوهمى الذى نسجته قريحة الشعوب القديمة. و فى المقابل، هناك من يرى فى الماضى رماداً ذُر فى فضاء التاريخ .. رماداً لا قيمة له فى الحاضر ، فاليوم هو الحياة ، وكل وافدٍ من الأمس ، هو ابن قبور الماضى التى لا يجب أن تُفتح من جديد.
ولعل مسيحنا الذى نرى فيه الله حياً متحركاً متلامساً معنا، قد طاله، من قِبَل العالم، ما طال التاريخ من الإسقاط الأسطورى ، أو من التهميش التاريخى، وكلاهما كانا بمثابة محاولة مغرضة لعزلنا عن مسيحنا ، ومن ثم مسيحيتنا ، لإغراقنا فى مياه الحيرة أمام دعوتنا الإلهية.
يحاول العالم الآن أن ينال من المسيح من خلال البحث فى التاريخ المتدد عبر إحدى و عشرين قرناً. و لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام بهاء الرب يسوع و شريعته ، فبحثوا عمّن دُعوا على اسمه لعلّهم يجدوا فى تاريخهم ما يلقون بأضواء ظلمتهم عليه !! ولكن هل كل من يُدعى مسيحياًّ يحيا حسبما أوصى الرب يسوع، وحسبما يرشد الروح ؟ بالطبع لا. لذا فإن من يريد أن يواجه المسيحية يتوجب عليه مواجهة المُخلَّص، لا من تسموا باسمه، فهناك مسيحيون اسماً بينما قلوبهم لم تتشكَّل على تعاليمه بعد. فاسم الله يُجدف عليه بين الأمم بسبب أفعال البعض ، تلك كانت كلمات القديس بولس فى رسالته إلى الرومان.
” كيف أصبح مسيحياً؟ ” كان هو السؤال الذى ردّده الفيلسوف الدنماركى كيركجارد فى كتابه ” وجهة نظر ” الذى أصدره عام 1849، بل وذهب إلى أن نتاجه الفكرى كله ليس إلا محاولة لفهم كيف يصبح مسيحياً.
ولعل هذا السؤال يراود الكثيرين الآن و خاصة فى زمن اختلاط القيم و المبادئ و الثقافات .. زمن عولمة الذهن و القلب .. إذ تم الخلط عند البعض بين المسيحية من حيث هى علاقة شخصية / ليتورجية مع الله ، وبين المسيحية من حيث هى ديانة بعض الشعوب و ميراثهم الفكرى و الثقافى و الحضارى.
ذلك الخلط بين المسيحيه / العلاقة و بين المسيحيه / الأيديولوجية جعل من الواقع لونا رماديا لا نلمح فيه الخطوط البيضاء أو السوادء بسهولة ، و بالوعى المُجرد.
و لعل المسيحية / الأيديولوجية كانت السبب المباشر فى العزوف عن الدين الذى مازالت تعانى منه المجتمعات الأوروبيّة حتى الآن، حتى أن البعض يرى أن أوروبا الآن تعيش فى مرحلة ” ما بعد المسيحية ” أو مرحلة ” عولمة الدين ” .
كانت محاولة الفصل بين المسيحية و المجتمع هى ما دعت إليه أستاذة الفلسفة مارجريت نايت فى محاضراتها الشهيرة التى قدّمتها بالإذاعة البريطانية فى خمسينيات القرن الماضى و التى حملت عنوان: ” أخلاق بغير دين “. وقد دعت فيها إلى إمكانّية قيام أخلاق وضعيّة تحكم السلوك و توجَّه سير الحياة دون الحاجة إلى الاسترشاد بالمبادئ و القواعد الدينيّة أو الخضوع لتعاليم الكنيسة !! من هنا ظهر الشعار الذى رفعه دعاة مذهب الحداثة القائل: “إذا أردت أن تكون معاصراً للحداثة فعليك أن تقول وداعاً للدين “.
وقد نشأ فى الكنيسة الكاثوليكيّة، كرد فعل، ما يُسمّى ب “يمين الحداثة ” وهو قَسَمٌ يؤدّية الإكليروس على مختلف فئاتهم ،فضلاً عن أساتذة اللاّهوت، وفيه يدينون كلّ ما يتعلق بالحداثة، وقد كان هذا القَسَمُ معمولاً به حتى المجمع الفاتيكانى الثانى.
مذهب ” الحداثة ” قائم على الإيمان بكل كا هو قابل للاختبار و المُشاهدة .. قائم على العلم الذى تفجّرت ينابيعه بالثورة الصناعيّة. و الحداثة ترى أن الكون محدود لذا من الممكن معرفته؛ فالنظريات العملية وحدها هى مصدر الحقيقة، لا وجود لما لا يخضع للنظريّات العمليّة .. لذا لا وجود لعالم آخر!!
وقد انسحب هذا الفكر على المجال المسيحى و الذى كان الألماني شليرماخر ( 1768- 1834 ) رائداً فيه. فقد رأى أن فكرة الخلق من العدم ، و ألأعمال المعجزية الواردة فى الكتاب المقدس فضلاً عن الميلاد البتولى للعذراء، هى أمور غير مقبولة علمياً و من ثم يجب أن تُرفض !! ودعا إلى إعادة هيكلة الوعى و الفهم الدينى استناداً للعلم!!
ظهر بعده الألمانى ألبرخت رتشيل ( 1822- 1889 ) و الذى نادى بالحفاظ على البذرة المسيحية و التخلص من القشرة . و القشرة فى رأية كانت أن المسيح إله !!!
وفى القرن العشرين هاجم الأمريكى هارى إمرسون فوسديك، الميلاد البتولى، فى كلمته التى بعنوان ” خطر التعبُّد ليسوع ” ، وقدم وثيقة وقَّع عليها ألف ومائتى راع معمدانى، مفادها أن الميلاد البتولى و المسحة و القيامة ليست من ضروريات المسيحية !!!
لقد ظهرت الحداثة كردّة فعل عنيفة على كلّ الثوابت التى طالبت بها الكنيسة الغربية، المجتمع، عبر عدة قرون مما حال دون التقدم و البحث. ولعل الشعور بأن الإيمان المسيحى ضد العلم كان نتاج بعض الحوادث التاريخيّة التى جرت فى أوروبا فى العصور الوسطى نتيجة ارتباط السلطة الدينية بالسلطة المدنيّة.
ظهر تيار جديد بعد ” الحداثة ” هو ” مابعد الحداثة ” وهو التيار الذى يرفض كل تحديد؛ فالحقيقة ليست كونيّة و ليست مطلقة و ليست قابلة للفهم ، كما أن اللغة لا تُعبَّر عن الحقيقة لأنها جزئية .. ولأول وهلة تبدو الأفكار مقبولة عن التحديدات التى فرضتها الحداثة من خلال رفضها الإيمان بكلّ خيط لا يعبر على التجربة و المشاهدة، إلا أن ” ما بعد الحداثة ” أنتجت ما يمكن أن نطلق عليه ” ميوعة فكرية ” ، وهو الذى تبنّته بعض الكنائس اللّيبراليّة فى الغرب، متنصّلة من كل تحديد عقائدى أو حتى أخلاقى !! هنا نجد أنها كانت بمثابة محاولة لرأب الصدع بين الأفكار و العقائد و المذاهب المتباينة و لكن من خلال تجريد الإنسان من أية قناعة ذهنية و فكرية وروحية ، وهنا الخلط بين ضرورة أن يكون للأنسان عقيدة ، وبين الصراع مع من يخالفون العقيدة..
لقد أجرت مجلة التايمز حواراً مع أحد هؤلاء الذين آمنوا ب ” ما بعد الحداثة ” و يُدعى برايان ماكليرين والذى طّبق مفاهيم ما بعد الحداثة على الإيمان و الحياة المسيحية ، وحينما كان السؤال عن موقفة من المثليّة الجنسية كان رده ” أنا لا أستطيع أن أجيب لأن أيّة إجابة ستحرج فرداً ما !! و فى موضع آخر أجاب : ” يمكننا أن نكتشف الأمر بصورة أوضح بعد خمس سنوات “!!
إيمان ما بعد الحداثة هو إيمان لا يُفرق بين الصواب و الخطأ ، بل و يرفض كل تحديد و تصنيف أخلاقى للصواب و الخطأ تاركاً إياه للمجتمع المدنى. وهو بمثابة تنصُّل من المسؤولية المسيحية و الشجاعة المسيحية فى اعلان عمّا نؤمن به و إن لم يلق استحسان البعض، و لعلّ خطورة الأخلاق المجتمعية تكمن فى أن المجتمع يُجدَّد قيمه بين الآن و الآخر تبعاً لقانون الإنتاج و الاستهلاك المُتحكم فى أيديولوجيات الشعوب الآن و الخاضعة لرغبة الحكومات فى تجنيد الأخلاق لصالح الأنتاجيّة ؛ فمثلاً الزنا ليس إشكاليّة و لكن الكذب إشكاليّة فى تلك المجتمعات، لأنّ الكذب يُهدَّد منظومة الإنتاج. لذا لن تكون هناك ثوابت أخلاقيّة وهو ما يُنبِئ بسقوط و انهيار تلك المجتمعات عينها.
تلك بعض من الأفكار التى تتحكم فى العقلية المعاصرة ، وهى تتأرجح أو قل تترنح ما بين الأخلاق اللادينية ، و الحداثة الآمنة فى أحضان النظريات العلمية ، و الميوعة الفكرية والعقائدية الناتجه عما بعد الحداثة، وهو ما دفع ألبير كامو ليقول : ” إن العقل الحديث يعانى من تشوش، لقد امتدت المعارف إلى مدى أصبح فيه من الصعب على العالم أو الذهن أن يجد موطئاً لقدم، إنها الحقيقة أننا نعانى من العدمية!! “.
كان محصلة هذا التشوش أن ابتعدت العقلية المعاصرة عن الله لأنه غير خاضع للقياس العلمى كما توجست من إقامة علاقة معه لئلا تقع أسيرة لقيود أخلاقية تستلزمها تلك العلاقة.. لذا فإن العقلية المعاصرة يبدو وكأنها تائهة فى آفاق بلا عودة..
المشكلة المعاصرة تكمن فى الخلط بين الحياة الداخلية و الحياة الخارجية … الخلط بين الإيمان بالأبدية و العمل فى دائرة الزمن … بين الروح و الجسد … إنها من جديد مشكلة الخلط بين المسيحية / العلاقة و المسيحية / الأيديولوجية…