إنّ الصلاة ليست صرخةً في بطن وادٍ أو نداءً في صحراء يتردَّد صداه في الأفق المُمْتَدّ ليغيب ويتلاشَى مع تلاشي الصوت والكلمة. كما إنّها ليست ضرورة أوجدتها الديانة واختلقها الإنسان ليُكلِّم الفراغ متوهِّمًا فيه إله النجدة والإنقاذ. إنّها ليست ضرورة خيال مريض يثرثر مع ذاته متوهِّمًا في ذاته الأخرَى إلهًا، يخاطبه فيما يُسمِّيه صلاة!! كما إنّها ليست خمرًا تسكرُ به النفس فتتعامَى عن حقائق المعقولات وتبتعد عن واقعيّة الأرض والجسد والزمن، لكنّها ضرورة حياة؛ إنّها فعلٌ عميقٌ يلمسُ الجانب الإلهي الخالد في تكوين الإنسان ـ الروح ـ التي هي وديعة الإله لنا وفينا.

إنّ الصلاة ليست استهلاكًا للوقت وتبديده فيما لا يُثــْمِر إنتاجيّة ماديّة، ولكنّها تحويلٌ للزمن إلى قيمةٍ أبديّة، وامتداد للزمن ليُعانِق غايته ونهايته المتمثــِّلة في اللاّزمن والأبديّة.

إنّ الصلاة هي تلك المياه التي ترعَى نبتة الأبديّة المزروعة في قلوبنا، التي غرستها يدُ الربِّ حينما جاء بنا من العدمِ واللاّشيء ليُصيِّرنا أسيادًا على الخليقة، وبنينًا له، وبدون تلك المياه الجارية الصافية ـ الصلاة ـ ستذْبُل وتختنق وتموت تلك النبتة الصغيرة، وذلك البُرعُم المُترجِّي الحياة والنور!!

إنّ الصلاة هي تفعيل الإنجيل وتحويله من وريقاتٍ مكتوبةٍ إلى حياةٍ منقوشةٍ على ألواح القلب، فالوصيّة تحيا حينما تصير صلاةً وتصير فعلاً، ولنْ تتحوَّل الوصيّة إلى فعلٍ مؤثــِّرٍ إنْ لم تعبُر على القلب المُنْسكِب في الصلاة. لذا، فالصلاة هي نبع الحياة الذي جاء به المسيح عِوضًا عن الحرف الجامد في الناموس، والقلب المُتحجِّر في أداء الطقوس، دون وعي أو اكتراث!!

إنّ الصلاة هي المدخل إلى جوهر المسيحيّة، فمسيحيّة بدون صلاة هي فقط نظريّة عقليّة مُدْهِشة، وسلوك اجتماعي متميِّز، بل واشتراكيّة رفيعة المستوى!!

الصلاة هي المعمل الذي يحدث فيه التلاقي مع الله لتُبْصِر النفس حقيقة التجسُّد، وسِرَّ الحياة المنسكبة كذبيحة حبٍّ، وآلام الموت وبهجة القيامة وانطلاق المسيح في الصعود ليَرِث ما كان له من مجدٍ ومعه البشريّة المفتداة، فتتحوَّل أفعالُ المسيح التي حدثت في التاريخ إلى أفعال تتخطَّى الزمن وتتلامس مع واقع البشريّة، يومًا بعد يومٍ، بل وتصير طاقةَ حياة تنهلُ منها النفس حينما تُواجه الأرض بحنين وأشواق الأبديّة، وتصبح الصلاة هي رفيقتنا لأعتاب الأبديّة؛ تعلو بنا فوق هموم الحياة وضيق العيش وآلام الدهر الحاضر لتصِل بنا إلى ذلك اللاّمتناهي في وجوده، العذبُ في حضوره، ليَهِب النفس قوت الحياة؛ الحبّ، فتنزل النفس برؤيةٍ جديدةٍ وقوةٍ جديدةٍ بل وكينونةٍ جديدةٍ، لتُعرِّف بإله الحبِّ لمن يعيشون في قفار هذا الدهر.

إنّ الصلاة هي رغبة عارمة في ملاقاة يسوع، رغبة تستولي على النفس وتُشْعِل فيها شوقًا يتأجَّج في كلِّ حينٍ، ويزداد هذا الشوقُ حينما تُصلِّي؛ فأشواقُ اللّقاء مع يسوع لا تتوقَّف ولا تنتهي ولا تنطفِئ، لأنّ الصلاة تزيدها وتُلهبها، والروح ينشط ويفرح ويشتعل في لحظات الصلاة، ويَسكُب الروح في النفس هذا الشعور بالاحتياج ليسوع، وكأنّ الصلاة لا تروي ظمأ النفس من هذا اللقاء بل تزيده، لتدخل النفس في شركةٍ مع يسوع، ويصبح لسان حالها كلّ حينٍ، قائلاً:

يا سيِّد، نريد أنْ نرَى يسوع

(يو 12 : 21)

وتصبح لحظات الصلاة هي موعدُ لقاءٍ تنتظره النفس بشوقٍ ولهفةٍ؛ فهي بمثابة وثبات داخليّة في عمق الكيان الإنساني نحو ذلك الكائن السرمدي، المرئي في وجه يسوع الناصرة؛ وثبات لا يعوقها مكان ولا زمان .. وثبات بالروح نحو الإله، كما لطفلٍ يَثِبُ إلى أمه في وقت جوعه، يَثِبُ إليها بعينيه ويمدُّ إليها يديه، بل ويميلُ إليها بجسده، مُتناسيًا المسافة التي تفصلهم بعضهم عن بعض، حتّى إنّه لا يعبأ بسقوطه في خِضَّم حنينه إلى هذا الحضن الدافِئ، حيث شعورًا بالأمانِ والراحةِ يكتنفه!!

هكذا النفوسُ التي اختبرت المُخلِّص لا تطيق صبرًا أنْ تفترق عنه ولو للحظة.

من ذاق حلاوة المسيح، يُرغّب نفسه في الاستئناس بالصلاة

 يوحنّا الدلياتي (الشيخ الروحاني)

كتاب نحو الصلاة

أبونا / سارافيم البرموسي